الخميس، 10 سبتمبر 2015

رسائل من قلب المعارك - الجزء الأول


 "رسائل من إيو جيما" فلم سينمائي أطلق عام 2006م حاز على جائزة أوسكار اضافة الى 28 جائزة أخرى، صور جزءا من أحداث الحرب العالمية الثانية بين أمريكا واليابان. الفلم يتحدث عن نفسه ولا يسعني هنا أن أكفيه مديحا.

ولكن بداية هذا الفلم كان السبب الذي أدى الى بحث عميق وراء موضوعي هنا. يبدأ الفلم عندما يكتشف علماء آثار يابانيون كيس من الرسائل القديمة (من أيام الحرب العالمية الثانية) في الأنفاق التي كانت محفورة في جميع أنحاء جزيرة إيو جيما. أطلق هذا المشهد وحده في نفسي شعورا كبيرا من الألم والحزن على العالم بأكمله الذي عاش فترة لا يمكن أن نتصورها الا كما رواها لنا الرواة. وأدركت وأنا ارى الرسائل أننا نستطيع أن نراها بصورة أوضح وعن قرب، من داخل الخنادق والأنفاق، وفي ظلمة الليل الممطر بالقنابل والمعطر برائحة الدم والعرق والمطرب صراخا وألما... وبحنينهم للحياة كما كانت قبل أن انتهت.
 التفاصيل هناك، في تلك الرسائل التي كتبت بيد كانت تحمل السلاح قبل أن تمسك بالقلم.... بداخل تلك المذكرات التي عاشت الأحداث داخل جيب الجندي الذي خلفها لنا... دليلا على أن الحرب لم يكن بين حكومات تبحث عن النفوذ والسيطرة. ولكنها كانت بين رجال كثير منهم شبانا يافعين، مثل أي من الرجال، أبناء واخوة وأصدقاء وآباء، زجوا في معارك مع أمثالهم من الأبناء والآباء والاخوة والأصدقاء ولكن من بلد مجاورة. فقط اتباعا للتعليمات. لم تكن بينهم عداوة مسبقة ولا ثأرا ولا معرفة البتة. اتباعا للتعليمات المرسلة اليهم من أعلى. 

لجأت الى الشبكة العنكبوتية (الانترنت) وبحثت عن مذكرات ورسائل الحروب العالمية وفوجئت بمئات الصور والنصوص لتلك المذكرات المكتوبة في قلب الأحداث وبأقلام من عاشها بكل أحوالها. غمرني شعور عميق متضارب ما بين السعادة بالكنز الذي وجدته والألم لمعرفتي بأن كل سطر كتب بالدم وأن كل كلمة كتبت كادت أن تكون الأخيرة، والحزن على عوائل مشتته، زوجات ينتظرن الرسائل في كل لحظة ليتأكدن أن صاحبها لا زال على قيد الحياة، أمهات ترسمن الابتسامة على وجوه أطفالهن وهن يبكين بحرقة في الداخل. ولم أنس الممرضات الشابات الاتي وجدن شجاعة لم يعرفن وجودها في داخلهن وتحملن مشاهدة أبشع الجروح والعمليات الجراحية الميدانية.

اهتمامي لم يكن في بلد معين ولا معركة معينة ولكن الحرب العالمية الأولى كانت المحور الذي وجدتني اتجه اليه لسبب لم أكن متأكدة منه حتى بضع سنوات من انتهائي من بحثي.
قمت بطبع جميع الرسائل والمذكرات التي وجدتها وكنت أقرأها بلهفة وكأنها خرائط لكنز. وهي فعلا كذلك. هنا لن أجد قرارات رئاسية ولا أوامر عسكرية، بل أحداث المعارك الحقيقية بالصوت والصورة والمشاعر. من عين الشاب ذو السبعة عشرعاما الذي كان يقوم باعداد الطعام الى الجندي البالغ الذي كان يحمل الجثث ليدفنها، والى الجندي المصاب الذي يعطى الاذن بالعودة لبلده ثم يمرض بالسل على متن السفينة ويحتضنه الموت قبل أن يرى أرضه.

علام كنت أبحث؟ كنت أبحث عن معاناة الانسان على يد الانسان. الملايين يموتون لأن رجلا واحدا أراد السلطة، تماما كما يحدث اليوم. كنت أبحث عن حقيقة الحرب بمنظور أعينهم الدامعة من الهواء الملوث بكل ما نثرته المعركة فيه. أبحث عن المشاعر التي لا يعرفها الا من كان هناك. ورغم أن ما وجدته كان متوقعا، الا أنه كان مؤلما جدا.

هذه سيدة تتقدم بمذكرات وصور ورسائل وجدتها في ممتلكات جدها بعد وفاته. لم يكن أحدا يعلم بوجود هذه المذكرات، فقد كان جدها رجلا صامتا طوال حياته، أو كانت تظن ذلك. بعد سؤالها لوالدتها اتضح لها أن جدها الذي حارب في الحرب الأولى عاد منها رجلا منكسرا، مجروحا في أعماقه صائما للأبد عن الكلام بما رآه وفعله حتى يصبح بهذه الحالة. نعم، لم يتكلم مع أحد بعد الحرب وفضّل العزلة طوال السنوات التي عاشها. كان يأكل ويشرب معهم، وهو ليس بينهم، يسلم على من يزوره، ولا يراه أمامه. لو نظرت في عينيه لوجدتها فارغة وكأن روحه قد خرجت منذ زمن بعيد، أو فقدت هناك على أرض المعركة. وبقي له فقط ما يكفي ليحيا بين الناس الى النهاية التي قد يكون تمناها كثيرا.

بالتوغل أكثر في البحث اتضح لي أن السكوت عن الأحداث لم يكن وضعا غريبا، فكثير من أمثاله لم يتمكنوا من الحديث عما شاهدوه هناك. الأحداث كانت تفوق الوصف بالكلمات، من رؤية أشلاء الجنود تتناثر حولهم بفعل القنابل، وتوديع الكثير من الأصدقاء والزملاء الى الموت، وفي بعض الأحيان تركهم في لحظات الموت الأخيرة لعدم امكانية انقاذهم بسبب القصف المستمر. الأخوة في الحرب لا تفوقها أخوّة. 

من الاسباب الأخرى وراء سكوتهم أن الأطباء في ذلك الوقت 1917م كانوا يعتقدون أن كتمان الذكريات المؤلمة أفضل للنسيان، باستثناء مستشفى واحدا كان يستكشف فائدة الكلام للعلاج. أيضا، الكثير من الجنود كانوا يخشون من ذكر تفاصيل سرية تعرض بلدهم للخطر ان انكشفت وما كانت الحدود التي يمكنهم الحديث فيها بحرية واضحة، فكتموا كلماتهم حفاظا على الأمانة الى النهاية، ألا يستحقون الاحترام؟

كما ذكرت فكثير من المذكرات هذه لم تظهر الا بعد وفاة كاتبها، وتقديمها من قبل أحد الأبناء أو الأحفاد الى المنظمات المهتمة بكل ما يتعلق بتلك الحروب التي غيرت وجه عالمنا تماما. عالمنا العربي بالذات تأثر بتلك الحروب، حروبهم ومطامعهم

يتبع

هناك تعليقان (2):

  1. عذرا أريد السؤال هل هناك جزء ثان للمقال؟ و شكرا

    ردحذف
    الردود
    1. مرحبًا Bleueye شكرًا لمرورك! أعتذر فلم أكمل الموضوع في وقته. الموضوع هذا كان له أثر كبير في نفسي وأتمنى أن أعود لاستكماله في وقت قريب. لك جزيل الشكر على سؤالك

      حذف